Skip to main content

السودان: صراع المركز والأطراف

السودان: صراع المركز والأطراف

منى يونس 

تعتبر مؤسسات الدولة في السودان من بين الأقدم تاريخياً؛ حيث تعود إلى 7000 سنة قبل الميلاد، وأن حدوده قديما كانت أكبر بكثير،
وسمي بعدة أسماء منها "كوش- مروي- النوبيا- ثم أخيرا السودان". السودان عبارة عن رقعة تتسم بالتنوع والتعدد الثقافي والإثني والعرقي والديني واللغوي. ولكن بالرغم من ذلك استطاعت الدولة أن تحافظ على وحدتها الوطنية لفترة طويلة من الزمن. فظل كل فرد يحتفظ بثقافته، وتم التعايش بصورة سلمية وبدون أن تذوب ثقافة في الأخرى.
يعتبر التعدد الثقافي والعرقي في كثير من الدول ميزة تساعد على التنوع والتكامل بين فئات المجتمع وجزئياته، ولكن للوصول إلى حالة من التناغم والتوافق بين العرقيات والفئات المختلفة، لا بد من إرادة سياسية تعمل على اعتبار التنوع والتعدد والاختلاف الثقافي عامل إثراء للتنمية البشرية.
أما في السودان، فهناك حالة واضحة من الإقصاء والتهميش الثقافي والسياسي تصل إلى محاربة كل ما هو مختلف ومناقض للسلطة المركزية. ويتضح ذلك بصورة جلية من الخطاب الرسمي الذي فشل في تحويل التنوع والتعدد الثقافي في السودان إلى عامل بناء وإيجابي وخميرة للتفاعل الثقافي المتناغم والتعايش المشترك، ووسيلة تفهم وقبول واعتراف بالآخر وقبول ثقافته وحقه في التميز الثقافي.

وما تعانيه المجتمعات العرقية والإثنية البعيدة عن المركز تعدى مفهوم "اللامساواة"، فالتهميش هو إحساس بالظلم جماعي يشكل وعيا مشتركا بفضل الطبقة المتعلمة التي تستطيع بلورة هذا الشعور وذاك الوعي في شكل أصوات مطالبة برفع الظلم أو المطالبة بالتنمية. ويمكن للسلطة المركزية أن تلعب دوراً إيجابياً في استيعاب هذه المطالبات والأصوات، وتجنب تطور الحركة المطلبية إلى احتجاجات وسخط وعنف، وذلك بالتجاوب مع المطالب واستيعاب تلك المناطق المهمشة في عملية التنمية.
فالحرمان والإحساس بالظلم يولد مناخا مواتيا للعنف الجماعي، ويسبب الإحباط. وفي كتابه "لماذا يثور الناس؟" يرى تيد جور أن "السبب هو الفجوة بين الحاجات وتحقيقها". ولكن في حالة السودان نجد أن الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال فشلت في تحقيق تلك الحاجات، واستمرت في إهمال الثقافات والجماعات البعيدة عن المركز، وعرفت الحالة بـ"الصراع بين المركز والأطراف أو المركز والهامش"؛ حيث تم تجاهل القوة الكامنة وراء التجمعات الإقليمية والإثنية ومطالبها، بل عملت على وصف تلك القوى بالعنصرية الهدامة العاملة على هدم "الوحدة الوطنية".
أكدت العديد من الدراسات وجود فوارق إقليمية كبيرة في توصيل الخدمات الاجتماعية على اختلافها إلى أقاليم السودان- وبالضرورة إلى إثنياته ومناطقه (كالبجة والنوبة في شمال السودان ودارفور في الغرب..إلخ)، وكان على رأسها الخدمات التعليمية.

التهميش بالأرقام
ومن أبرز الأمثلة ما أعلنت عنه وزارة التربية والتعليم السودانية نفسها؛ حيث أكدت أن نسب الانخراط في التعليم العام والجامعي تقل في جنوب السودان وفي أقاليم غرب السودان والشرق والنيل الأزرق بصورة أقل من المستوى القومي بكثير وبدرجات متفاوتة بالضرورة. ولم يطرأ تحسن كبير في هذه الفجوة منذ الستينيات وحتى الآن. ومن الجدير بالذكر أن نسب الانخراط في التعليم العام في الأقاليم البعيدة عن المركز متدنية بصورة كبيرة. ومثال على ذلك (ولاية بحر الغزال) التي لم تتعد نسبة الانخراط فيها في نهاية التسعينيات 10% وجنوب كردفان 24% (بالتأكيد الحرب كانت واحدة من الأسباب، لكن ليست كل الأسباب)، في حين أن هناك ولايات أخرى حظيت بالعناية والاهتمام من قبل الحكومة المركزية، فكانت نسبة الانخراط في التعليم العام بها تتعدى 85%.
وبالإضافة إلى ذلك نجد فجوة كبيرة في "جودة التعليم" والخطط الرامية إلى محاربة ظواهر التسرب وإبقاء التلاميذ واستمرارهم في العملية التعليمية والتحصيل المعرفي، فكلها مؤشرات تؤكد على الفوارق المناطقية والإقليمية المذهلة في السودان.
بلغت على سبيل المثال نسبة التسرب 92% في بعض الولايات المهمشة وسط جيل واحد من الأطفال بين الصف الأول والصف الثامن، في حين أنّ في بعض الولايات نسب التسرب لا تزيد عن 20% خلال الثماني سنوات. ولا يمكن أن نفصل هذه الظاهرة عن مفهوم التهميش بدلالاته الإدارية والسياسية والاقتصادية.
ولتوضيح الأمر نلقي الضوء بصورة أكبر على أحد مرتكزات العملية التعليمية "المعلم"، فمعلمو الولايات المهمشة يعايشون أحوالا قاسية وظروفا طاحنة:
- يعاني معلمو الولايات المهمشة من الإحباط لضعف العائد المادي، وفي كثير من الأحيان غياب المرتب وتأخره.
- يعاني معلمو المناطق البعيدة من غياب التدريب والتأهيل ونقص فرص التطوير المهني، فمعظمها متمركز في المدن الكبرى، ولا تسمح الحالة الاقتصادية بالسفر والترحال إلى هناك.

لا ماء.. لا مراحيض.. لا أنشطة
أما المدارس فمنهارة ومتدهورة: لا ماء.. لا مراحيض.. لا أنشطة، بسبب غياب التمويل؛ كما أن المدارس في أغلبها تبعد عن المنازل، وتبعد المسافة على التلاميذ؛ مما يجعل انتظامهم في العملية التعليمية أمراً غاية في الصعوبة وغير آمن في كثير من الأحوال، فقد تخلت الحكومة عن دورها في حماية المؤسسة والمدن. ومن المعروف أنه أثناء حرب الجنوب أوكلت الحكومة المركزية لبعض المجتمعات حماية نفسها بنفسها أثناء تركيز الحكومة على جربها مع الجنوب.
وليس الوضع أحسن حالاً بالنسبة للفوارق في التعليم الجامعي بين مختلف الأقاليم. فالإحصاءات الخاصة بنسب المنخرطين في التعليم الجامعي من الأقاليم المختلفة تشي بالفجوة السحيقة بين المركز والأطراف. هناك إحصاءات توضح أن بعض الولايات في السودان تساهم بأقل من 1% من الطلاب الذين يدرسون الطب في جامعات الخرطوم والجزيرة وجوبا والإسلامية، وبأقل من 5% من مجموع الطلاب الذين يدرسون الطب والهندسة وتقنية المعلومات وغيرها من التخصصات التطبيقية في كل السودان في الجامعات الخاصة والحكومية على السواء.

التهميش.. وانسداد الأفق
ومن المتوقع أن يؤدي هذا الوضع إلى تخريج الصفوة والنخب المستقبلية في السودان من نفس الطبقات- الولايات والمجتمعات التي تسيطر على البلاد منذ الاستقلال؛ مما يعني أن هناك انسدادات في بعض الأقاليم ووسط بعض المجموعات الإثنية والثقافية والاجتماعية، مثل قطاع البدو، والذي جله يعيش في الأقاليم الأقل نمواً (المهمشة) مما لا يعطي أملاً كبيراً في وجود قنوات طبيعية وشرعية لتداول السلطة أو الوصول إلى نوع من أنواع التفوق الاقتصادي لدى أسر هذه الولايات. ومن المعروف أن هذه الانسدادات هي ما تبقي الوضع على ما هو عليه وتديم من عمر "حالة التهميش والصراع بين المركز والأطراف".
وللأسف الشديد تم تفويت الفرصة في الاستفادة من التنوع والتعدد الثقافي لدى المجتمع السوداني من خلال التعليم، فبدلاً من أن يكون التعليم وسيلة فعالة لتحقيق التمكين الاجتماعي وتحقيق الوحدة الوطنية، كان وسيلة لتخريج قنابل موقوتة في الأقاليم المهمشة التي فقدت حظها من التعليم وأصبحت ناقمة على الدولة (غير المحايدة- وفي نظره ظالمة طاغية). وسوف يبقى الوضع على ما هو عليه حتى يتم إصلاح التعليم بصورة تحقق "العدل والمساواة".




Comments