هكذا درست التاريخ في المدرسة الألمانية

هكذا درست التاريخ في المدرسة الألمانية

منى أحمد

(نشرت المادة على صفحة تربية و تعليم بشبكة العربية الجديد بتاريخ 9 فبراير 2017)


كان عليّ دراسة كل منالمنهج المصري والآخر الألماني في مدرستي الألمانية بمصر، وكان أكثر ما يزعجني هو سؤال: "ما رأيك في مادة التاريخ؟" لأن الإجابة ببساطة "المنهج المصري أكرهه ولا أطيقه أما الألماني فأعشق دروس التاريخ وأنتظرها بفارغ الصبر"، فبينما يكاد يكون المحتوى هو نفسه (الحضارة الفرعونية ثم الرومانية الفينيقيه ثم نعرج على الحضارة الإسلامية…) كان هناك اختلاف كلي وشامل في طريقة التناول.
فالمنهج المصري كان يتم تناوله على أنه كتاب مُنزل لا يمكن مناقشته أو تناول ما فيه بالحوار أو الجدال، وما على الطالب سوى حفظ (عن ظهر قلب) التواريخوالحروب وبالطبع أسباب اندلاعها المباشرة وغير المباشرة وأسباب انحطاط هذه الأمة ثم تلك ثم تلك وسيرة هذا الملك وذلك الإمبراطور (متى ولد - كيف ترقى ماذا فعل وكيف مات)، كان التناول جافاً - أغلبه دموي - ممل ولا طائل من ورائه بالمرة. 
حتى إن عدداً من الطلبة في المرحلة الثانوية اخترعوا طريقة طريفة لحفظ المعلومات: أسباب الحروب (هناك 3 أسباب مشتركة بين كل الحروب منذ قابيل وهابيل: الرغبة في السيطرة ومد النفوذ - الاستفادة من ضعف القوى الأخرى اقتصادياً وسياسياً - الرغبة في استغلال الموارد الاقتصادية للطرف الأضعف)، ويتم تكرار نفس الأسباب مع أي حرب وفي أي منطقة. أما درس المنهج الألماني للتاريخ فقد كان يتناول حياة البشر بصورة من التفصيل، ماذا كانوا يأكلون؟ لماذا؟ كيف نجحوا ما هي العوامل الحياتية التي يسرت عليهم النجاح؟ ما هي الطبقات والفئات التي كانت أكثر احتراماً؟ لماذا؟ كيف أثر ذلك حضارياً؟ ما مكانة العلم، التعليم، الفن بين عامة الشعب، كيف كانوا يحتفلون؟

ومن بين الأمثلة التي لا يمكن نسيانها يوم أن جلست المعلمة تحكي لنا عن أعراض البذخ والترف نهاية الدولة الرومانية، فقد انتشرت أمراض السمنة والنقرس لأنهم كانوا يأكلون بنهم، فانتشرت النوافير في الميادين لأن علية القوم كانوا كثيري التقيؤ من كثرة الأكل، ولكن على الطرف الآخر من نفس المدينة وعلى مرمى البصر كانوا يشيدون أسواق "الرقيق" حيث انتشر الرق وبصورة خاصة "تجارة الإماء"، لأن الجشع والطمع كانا سمة هذا العصر، ورسمت لنا المعلمة صورة لحياة البؤساء الفقراء من خلال يوم في حياة خادم القصر (أين تربى - كيف أتى للمدينة - ما هي حقوقه - ما هي واجباته…)، ففهمنا معاني الطبقية - الظلم - الديكتاتورية - قيمة الحرية وقيمة العدالة الاجتماعية…
ثم توقفت وقالت بحزم: والظلم والطبقية وانتشار الفقر والمرض ما هي إلا علامات الانهيار، لو وجدتم في حياتكم أثناء تجوالكم في البلدان عندما تكبرون مثل هذه الأمثلة احذروا: "إنها دول تنهار"، وأخذنا بعدها نتناقش أي الدول نعتقد سوف تنهار في الأعوام المقبلة، وما هي العوامل التي تعجّل بالانهيار، وما هي التي تجعل الدولة أو الأمة تصمد بعقد أو حتى قرن.

كان النقاش جزءاً لا يتجزّأ من الدرس، وكان "إطلاق العقل والتحليق بالخيال في الحياة الماضية " أمراً مستحباً ومطلوباً ولا ينتهي الدرس إلا بعد ربط ما تم تناوله بالنقاش بحياتنا اليومية، هل كانوا أيام الفراعنة يأكلون مثلنا الخبز؟ وكان علينا كتابة تخيلاتنا عن يومهم وحياتهم أين كانت المدارس؟ أين تم تشييد بيت الوزير؟ ما هي الأقمشة التي كانوا ينسجونها؟ أين كان يتسكع الشباب؟ ما هي وسائل الترفيه المسموح وغير المسموح التي انتشرت أيامهم؟
هكذا تعلمت الفرق بين دراسة التاريخ بطريقة المناهج والمدارس العربية والأخرى الألمانية، وكان الفرق عظيماً لو تعلمون.

Comments